الجمعة، 12 مايو 2017

شكرا

يستيقظ صباحا على رنين هاتفه ... كم يكره تلك النغمة مع أنه قام بتغييرها مرات عديدة .. يحاول الاعتدال و لكن عضلات جسده لا تساعده .. آلام بغيضة تسري في عضلاته .. يحاول العودة إلى النوم عله يتخلص من آلامه ..لكن صورة مديره  بلعابه المتطاير أثناء حديثه عن الالتزام بالمواعيد و احترام المرضى و المستشفى تقفز إلى ذهنه .. هو يعلم أن كلامه هذا غير واقعي .. وأنه نفسه هو أول مخالفيه .. لكن عندما يخالف المدير تكون هناك آلاف المبررات أما إذا خالفه هو فلا يقابله إلا الوعيد بالويل و الثبور و عظائم الأمور ... كم تمنى نحر هذا المتشدق و تجفيف رأسه و تحنيطها  و تعليقها في مرآة سيارته .. و لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه !!

ينفض عنه أحلام الراحة و يقوم لينثر قطرات الماء على وجهه ليزيل آثار النوم و يصفف شعره .. يتساقط الكثير منه في الحوض .. أخذت منه هذه المهنة أكثر مما أعطته .. ولكن لا يعرف غيرها .. تذكر حلمه في امتلاك قطعة أرض أو حديقة موالح و يكون بيته في وسطها ليأكل مما يزرع .. نظر إلى وجهه نظرة أخيرة قبل ان يودعه فلا يعلم متى سيراه ثانية !!

عاد إلى غرفة نومه و ارتدى ملابسه نظر إلى زوجته النائمة قبلها في سكون واتجه إلى غرفة الأبناء .. قبلهم قبلات سريعة وهو يدعو في سره أن لا يكتب الله عليهم هذا العذاب الأزلي .

في الطريق إلى المشفى تحمل الزحام المروري .. و الشمس التي تعتبر عدوته الاولى .. من طول ما قضى ليله ساهرا في المناوبات الليلية بدأ يقتنع أنه على عداوة مع الشمس .. أعزى ذلك لكثرة متابعته لمسلسلات و أفلام مصاصي الدماء التي بدأ في مشاهدتها أيام الثانوية بحجة أن أصدقاءه كانوا يزرعون به الخوف من مشاهدة الدماء في العمليات الجراحية حينما أخبرهم ان كلية الطب هي حلمه ... ابتسم ساخرا من سذاجته أيامها .. الآن هو يفعل بالمرضى في غرف العمليات ما قد يشمئز منه مصاص الدماء !!

في العيادة الخارجية .. يتزايد الصخب تدريجيا كالآم الطلق حتى يصل لذروته مع أذان الظهر ليحدث المخاض في تمام الواحدة كل يوم ويمضى كل ماض إلى حال سبيله !!

يصعد السلم إلى قسمه فالمصاعد متوقفة حتى لا يغافل أصحاب الزيارة إدارة المستشفى و يصعدوا إلى العنابر بدون قطع تذاكر !! لطالما تساءل عن مصير هذه النقود و نقود الايصالات التي يدفعها المرضى نظير خدمات المستشفى المجانية .. يبلغونه أنها تستخدم لتطوير المستشفيات .. وعندما قال أنه في هذه المستشفى لما يزيد عن الست سنوات أجيب بأن هذه المستشفى لم يصلها قطار التطوير بعد فالنقود التي يتم جمعها يتم توجيهها إلى كل مستشفى من مستشفيات المحافظة لفترة من الفترات حتى يأتي دور المستشفى التي تليها .. ضحك و تذكر كلمة الريس حبشي في رائعة الفرح : جمعية و دايرة قطر و ما بيقفش " تتلاشى تساؤلاته بدخوله إلى غرفة رئيس القسم ليجد زملائه قد سبقوه .. يرى وجهه في وجوههم .. كلهم منهكون .. كلهم مرهقون .. قد طالتهم يد الزمن .. إن لم يكن بالمرض العضوي ما بين ذبحة صدرية أو ارتفاع مزمن بضغط الدم أو سكري  فبلا شك قد انتهكت يد الزمن سلامهم النفسي و اغتصبت أعز ما يملكون "راحة البال" ، يتجاذبون أطراف الحديث عن مشاكل القسم و محاولات تطويره .. تضحكه دائما كلمة التطوير .. يتذكر عندها أبيات أحمد مطر التي يحكي فيها :
رأيت جرذاً.
يخطب اليوم عن النظافة.
وينذر الأوساخ بالعقاب.
وحوله يصفق الذباب !!

عن أي تطوير يتحدثون ... يستمع وقد وضع أذنه بميل في اتجاه صندوق القمامة حتى لا يتساقط الكلام الخارج منها على الأرض .. يشعل سيجارته و يراقب الجرذ و الذباب في صمت متصفحا الفيس بوك أو تويتر .. تمضي الدقائق ثقيلة حتى ينتهي الاجتماع  يودعون بعضهم على أمل اللقاء في الغد ، هو وحده يتمنى ألا يقابلهم مرة اخرى ، يتمنى أن تخسف الأرض و تحدث الزلازل و تهطل السيول حتى لا يقرب هذا المكان ثانية و لكن لمرة أخرى ليس كل ما يتمناه المرء يدركه !!

انتهت المعركة الصباحية و لكن المعركة المسائية على وشك البدء ، المناوبة الليلية معركة النفس الطويل كما يسمونها كل اتصاله بالعالم الخارجي يتوقف إلا من تلفاز متهالك في غرفة السكن التي لا تدخلها إشارة الهاتف المحمول يستمر في التنقل بين السكن و استقبال المشفى حتى تبدأ الحالات في التوقف عن الحضور فلا يأتي إلا أصحاب المزاج من البلطجية و المدمنين ليمارسوا هوايتهم المفضلة في الاعتداء على "الدكاترة ولاد دين ال***" على حد وصفهم يتخلل هذه الاعتداءات بضع حالات لسيدات أبت أن تنام إلا بعد ان تدعي إصابتها بالشلل أو الذبحة الصدرية ردا منها على حماتها التي أجبرتها على إطعام الدجاج اليوم بعد أن أجبرتها أيضا على عمل الغداء وتقديمه لرجال العائلة !!

يسلم ظهره لسرير متهالك بسكن الاطباء لينام سويعات قليلة قبل بزوغ الفجر ولكن لا يهنأ له بال رنين هاتف السكن يعلو شاقا سكون الليل ، يستدعونه ، ينزل مهرولا .. يناظر الحالة ، الحالة على صلة قرابة برئيس مباحث القسم التابعة له المستشفى ، يدخل رئيس المباحث يسبقه صوته و شماشرجيته : هاتلي يابني الدكتور اللي بص على الحالة ، يتوجهون اليه ويصطحبونه كمتهم إلى الباشا ، يسأله كمن يحقق معه في أمن الدولة : الحالة عاملة ايه .. يعلم هو جيدا أن هؤلاء قوم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وصف له الحالة و أخبره أنها تحتاج إلى دخول العمليات ولكن كل الغرف مشغولة الان و أن إحداها ستصبح شاغرة خلال دقائق ، يعاجله الباشا بصوت خيشومي : و أنا لسة هستنى ؟؟ رد عليه : حضرتك ما تقلقش .. دقايق وهتدخل وبعدين لسة على أما تتجهز و تتحضر تكون الاوضة فضيت إن شاء الله وهتاخد حقها ف الرعاية زي أي مريض معانا .. في عنينا والله ، أمسك الباشا بتلابيبه : دي مش زي أي حد دي تبعي .. عارف يعني ايه ، يعني ما ينفعش يتم معاها أي نوع من أنواع الاهمال اللي بنسمع عنه في المستشفيات فاهم ولا مش فاهم ؟؟
تذكر أيام لو كان هذا الموقف حدث معه لم يكن سيتوقف حتى تكون رقبة هذا الشخص تحت قدميه ولكنه يأس ربما ، أو اقتنع ان هذه المواقف هي من الأضرار المصاحبة لبقاؤه في هذه الخرابة الصغرى التي هي جزء من خرابة أكبر .

جهز الحالة و استعد لدخول العمليات وعندما جلست لتأخذ المخدر النصفي اشتكت من ألم الإبرة و قالت ان بنت خالتها عندما اخذت الابرة لم تشعر بشيء لأن الطبيب أعطاها مخدر حتى لا تشعر بألم إبرة التخدير و توعدت طاقم المستشفى بإبلاغ رئيس المباحث بمدى الاهمال الجسيم !!

كانت تكفيه هذه الكلمة .. ربما كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير .. لتدفعه دفعا إلى حمل المشرط و النظر للمريضة في عينيها قائلا : شكرا ، وارتفعت يده بالمشرط لتهوي على اوردة رقبته لتقطعها ويتناثر الدم على وجه المريضة .

سقط على ارض غرفة العمليات و الدم يسيل كأنما انتظر طويلا ليفارق هذا الجسد ، وقف طبيب التخدير يصرخ من هول الموقف ليكون آخر ما تراه عيناه زملاء يركضون حوله لمحاولة إسعافه ولكنه كان ينظر إليهم كأنما يقول لهم : حتما ستلحقون بي !!

مع المرضى

حريتك في اختيار خطة العلاج للمريض لاتتوقف عليك فحسب ولا على معلوماتك الطبية و لا على قدرتك على تقييم الحالة تقييما شاملا فحسب ، هناك معطيات وعوامل لابد من الأخذ بها أثناء إختيار خطة العلاج ، أولى هذه العوامل هو المريض و مستواه العقلي و الثقافي و قدرته النفسية على التعامل مع الوضع و الاقتناع بحقيقة أنه مريض و حقيقة أنه بحاجة إلى العلاج و حقيقة تحسنه من عدمه في نهاية المطاف ، ثاني العوامل و أشدها تأثيرا ربما أكثر تأثيرا من المعطى الأول هو أهلية المريض و مرافقيه ربما في بلد مثل مصر يكون هذا المعطى عقبة أكثر منه عاملا مساعدا إلا فيما ندر هؤلاء المرافقون هم فعلا من يقفون في طريقك ربما احتجت أن تنال ثقتهم أكثر من حاجتك إلى نيل ثقة المريض ، إذا صنفتهم فهناك المرافق الذي لا يمتلك أي خلفية طبية على الاطلاق هذا النوع هو عملة نادرة و إذا لم تستطع نيل ثقته فهذا ضعف عظيم في قدراتك كطبيب ، النوع الثاني هو الطبيب الجزئي وهذا أسوأ كوابيسك أصحاب المعلومات الطبية المجتزئة رواد المواقع الطبية على الشبكة العنكبوتية . الذين يقيمون عملك بناءا على ما استقوه من معلومات من مواقع أكثرها يبث معلومات خاطئة لا يعلمون أن لكل حالة وضعها و أن ما يصلح للمريض صاحب الحالة الذي شارك تجربته على النت ربما لا يصلح لمريضهم هؤلاء لا تحاول إقناعهم بل اتبع معهم سياسة الإقصاء ، ثالث الأنواع هو المرافق الطبيب أو زميل مهنتك غالبا ما يكون عونا لك في خطتك في أكثر الأوقات .
استكمالا للعوامل  المؤثرة : العامل الثالث يتوقف على إمكانيات المكان الذي تعمل به وقدرته على تنفيذ خطتك العلاجية ولا يحتاج إلى توضيح أكثر من المثل المصري : يا مستنية السمنة من بطن النملة لانتي طابخة ولا عاملة 😂😂

آخر العوامل هو ما نوهت له في بداية التدوينة : أنت ... كطبيب و كشخص ، كطبيب مطلوب منك استمرار الاطلاع و المتابعة كما هو الحال مع كل الأطباء ، مطلوب منك تنمية مهارتك في التواصل مع المرضى مطلوب منك أن تخاطب الناس على قدر عقولهم مطلوب منك إيصال و تبسيط المعلومات الطبية لهولاء الذين لا يعلمون شيئا عن الطب أما على مستواك الشخصي فحاول أن يتسع صدرك للجميع و أن لا تجعل مشاكلك الشخصية تؤثر على تعاملك مع مرضاك كما هو واجب عليك ألا تجعل مشاكل مرضاك تؤثر على حياتك الشخصية ، أيضا حاول أن يكون مظهرك وكلامك باعثا للثقة في المريض مطمئنا لأهليته .

عودة للتدوين

مر أكثر من أربعة أعوام على آخر تدوينة في هذه المدونة ، لا ادري ما الذي ذكرني بها او دعاني للكتابة مرة أخرى ، مع علمي أن هذا الكلام لن يقرأه أحد  في الغالب 😁 ، وحتى لو تمت قراءته لايضر المهم أن أكتب ،  أحب الكتابة و أتمنى أن تحبني ، لكن كعادتي لا أستكمل طريقا لآخره ، بقدر ما يجعل نظرة الناس إليك أنك إنسان مهمل و غير مسئول على قدر ما يجعلك هذا تجرب طرقا أكثر من غيرك ، ليس بالضرورة أن تدور الحياة حولك فأنت لست مركز الكون ، ربما تناثرت الأفكار في هذه التدوينة و اشتكت من قلة الترابط ، ولكن ذلك حتى يعود القلم للكتابة من جديد لابد له من فترة تدريب  .

في النهاية . تركك للطريق في منتصفه ليس دائما من الصواب و ليس دائما من الخطأ. ولكن احتفظ لنفسك بحق الرجوع دتئما و استكمال ما بدأته

صباح الخير